Partager
إذا كان لا بدّ لثورة تونس الشعبية من آباء تذكرهم فما من شكّ في أن توفيق بن بريك من هؤلاء وقد يكون أحقّهم جميعا بهذه الأبوّة.
ناضل وصمد وصبر وصابر، قاسى وعانى وأُحدر في فكره وفي جسده.. لكنه انتصب كالرمح حين أسقطت الجموع أو تساقطوا ونطق حين سكتوا ووقف شوكة في حلق الطاغية.
لا يمكن لأحد منا اليوم أن ينكر أو حتى أن ينسى ما كابده هذا الرجل ليحدث شرخا في الستار الحديدي الذي أُنزل على تونس على امتداد حوالي عقدين من الزمن، ولم يتردّد في الإيفاء بما عاهد نفسه عليه فمضى يوسّع الشرخ ليجعله فتحة دخلت منها نسائم أنعشت القلوب والضمائر، ودفع هو غاليا ثمن هذا الانتصار الأول على الخوف.
كانت المعركة الأولى وكانت حاسمة هزّت أركان النظام وشوّشت صورته، دامت 42 يوما.
وكان أطول إضراب جوع شغل الإعلام ـ في الخارج ! ـ وملأ الدنيا فتجنّدت كل الضمائر الحرّة لتدفع بالحكومة الفرنسية الى الضغط على المخلوع فخضع وتسلّم توفيق بن بريك جواز سفره ودخل باريس وظنّ البعض أنهم وجدوا فيه «مَهْديهم المنتظر» الذي سوف يرضى بالمكوث بالعاصمة الفرنسية ويتقمّص دور المعارض الجاهز للاستعمال وترديد بعض الشعارات بين حين وآخر أو إمضاء العرائض.
لكن توفيق بن بريك لم يكن حيث كان ينتظره أنصار معارضة الصالونات والتظاهرات في الشوارع الآمنة لأنه محارب «سامورّائي» لا يخشى الموت ولا يبدّل تبديلا، فما أن انتهى من الاستشفاء في باريس حتى عاد.. الى الواجهة في مدينته التي يحبّها حبّه للحرية ولأهله وأصدقائه وحبّه لقهوة الصباح مع السّجارة الأولى.
وفي الحقيقة لم يكن توفيق بن بريك يطلب أكثر من ذلك: يكتب بحرية ويضحك حرّا ويفكّر كما يريد. وأدرك أن ذلك مما يخيف النظام القائم الذي ركّز بناءه على أساس نمطيّ في الكتابة والضحك والتفكير وكلما أراد أحد أن يخرج عن النمط المفروض أحس الماسك بالخطر المحدق فسلّط عليه كل أنواع الترهيب والعنف والتعذيب وقد يتخذ في ذلك أساليب أكثر إيذاء فيعمد الى التحقير والتهميش... والترغيب. تعرّض توفيق بن بريك الى كل هذه الأنواع لكن ذلك لم يفلّ من عزمه ولم يثنه عن مواصلة نهج الحرية الذي اختاره ولم يمنعه ضرب البوليس السياسي ولا انتهاكاته المتكرّرة لحرمة بيته ولا قطع رزق أفراد ذويه ولا ظلمة الزنزانة ولا حتى المساومة بل كل ذلك لم يزده الا إصرارا.
سارق النار
ربما لم يدرك النظام السابق أن هذا الواقف أمام تسلّطه الرافض أبدا أن يرضخ والذي لا يهدأ أغضبه ولا تنطفئ سيجارته إنما سرّه الوحيد أنه شاعر، لا من نُظّام القوافي المتزاحمين أمام باب الحاكم والباحثين عن استحسان الجماهير واللاهثين وراء المجد الفارغ ولكنه شاعر كما صوّرته وشدّدت تصويره ميثولوجيات اليونان القديمة فهو عنيد عزوم على توسيع الحدود، حدود الكلمة وحدود الفكر وحدود الحرية ـ إن كانت لها حدود... فلقد سرق هذا الشاعر كما تقول الاسطورة قبس الشمس من الآلهة وأهداه الى الانسان ليتحرر من الخوف وطلب منه أن يوزع بدوره القبس على كل انسان ودعاه أن يرعى هذه النار لأنها سريعة الانطفاء. لم يحتفظ توفيق بن بريك بالقبس لوحده بل أعطى منه لرفاق له كثيرين سوف يلهبون بها تلك الجذوة التي أشعت صباح يوم 14 جانفي.
ولكن توفيق شاعر بالمعنى العربي كذلك أي حامل لواء الكلمة التي «تنفذ ما لا تنفذ الابر». فلقد أنضجته المعاناة الطويلة وخلصت موهبته من شوائب الغرور والتزلّف ولم تبق فيه هذه المعاناة المريرة إلا عينا ثاقبة يرى بها ما لا يراه الانسان العادي حبيس رغبة الرفاه والأمان والطمأنينة. والشاعر هو نبيّ قومه الذي يبشره بصدق أحلامه. أحلام قومه طبعا. ألم ير حسان ابن ثابت شاعر الرسول الأكرم فتح مكة قبل أوانه؟ ألم ير شاعر فرنسا أليويار Eluard «الأرض زرقاء مثل برتقالة»، نصف قرن قبل أن تقف الانسانية عند هذه الحقيقة وتشاهدها بأعين كل غزاة الفضاء؟
لقد رأى توفيق بن بريك نظام بن علي وهو يسقط كصرح من ورق في يوم من أيام شهر جانفي وسمع الرئيس المخلوع وهو يقول «فهمتكم». رأى ذلك ودوّنه في روايته التخيّلية «بن بريك رئيسا» التي صدرت منذ ثماني سنوات.
السكوت المدوّي
لم يكتف توفيق بن بريك بالرؤيا في كتبه بل إنه أفرز من لهيب معاناته خطابا جدّد به لغة الأجداد. فالكتابة عنده كما النضال التزام دؤوب لتجاوز الحدود وتخطي البائد والتعدّي على اللائق. الكتابة عنده صرخة دائمة.
لكن وقد قامت الثورة وبزغت شمس الحرية، لماذا لاذ توفيق بن بريك بالسكوت وهو الذي لم يرض من قبل أن يلجم لسانه؟ هل لأنه غاضه أن يركب موجة ثورة الشعب أبطال الساعة الخامسة والعشرين؟ أم هل هي مجرد ردّة فعل لرجل مجروح في كبريائه وقد شاهد الرّفاق تتسابق لملء الكراسي منتصبين حماة لثورة كان من أوائل موقدي نارها؟
سألته ما هذا الصمت يا توفيق؟
ابتسم وبهدوء المتواضعين أجاب: «ليس لي ما أقول..».
ابتداء من يوم غد الاثنين تنشر «الشروق» تباعا الرواية التخيّلية التي رأى فيها توفيق بن بريك سقوط نظام بن علي.
موعدكم غدا مع الحلقة الأولى من «بن بريك رئيسا».
توفيق بن بريك في سطور
ولد توفيق بن بريك الزغلامي في الجريصة (ولاية الكاف) سنة 1960 في عائلة عرفت بنضالها السياسي والنقابي.
درس الحقوق قبل أن يتفرغ للعمل الصحفي في تونس وفي عديد الصحف الفرنسية.
عارض النظام السابق في شخص الرئيس المخلوع وتعرض للملاحقة والسجن.
أصدر عددا من التآليف من روايات ودواوين شعرية نشر معظمها في فرنسا من أهمها:
والآن ستسمعني سنة 2000
ضحكة الحوت الكبير سنة 2000
دكتاتورية حلوة جدا
بن بريك في القصر 2001
بن بريك رئيسا 2003
سارق الأدب 2004
بقلم: عبد الجليل المسعودي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق